[قصة قصيرة] فتيات فالكيري لقاء الملائكة لباولو كويلو
فالكيري: في الاساطير الاسكندنافية، إحدى بنات أودين الاثنتي عشرة اللواتي يجبن ميادين القتال
ويحملن أرواح الأبطال المقتولين إلى قاعة فالهالا لكي يقاتل
فتيات فالكيري (لقاء الملائكة) - باولو كويلو
![]() |
فالكيري لباولو كويلو |
استهلال - اتمنى لكم قراءة ممتعة
"شيء ذو أهمية كبيرة بالنسبة لي؟". فكّر جي بضع لحظات قبل أن يجيب قائلاً: "السحر."
"لا، شيء آخر"، قال باولو بإصرار.
"المرأة" قال جي، "السحر والمرأة."!
ضحك باولو.
قال: "إنهما شيئان على قدر متساوٍ من الأهمية بالنسبة لي، رغم أن الزواج يثبطّني قليلاً ."!
جاء دور جي ليضحك.
قال: "بعض الشيء. قليلاً فقط."
أترع باولو كأس مرشده بالنبيذ. لم ير أحدهما الآخر منذ أربعة أشهر، لذلك كانت هذه الليلة خاصة
جداً. وكان باولو يريد أن يسترسل في حديثه فترة أطول، وأن يزيد من عنصر الترقّب والتشويق،
قبل أن يقدم لجي الرزمة التي أحضرها له.
قال لجي: "كنت أتصور أن المرشدين الكبار أشخاص منعزلون عن العالم"، وأضاف: "لو كنت قد
أجبتني بهذه الطريقة منذ سنوات قليلة، لتخليت عن التلمذة على يدك."!
"كان يجب أن تفعل ذلك"، قال جي، وأخذ رشفة نبيذ من كأسه، وأردف: " ولكنت وجدت مريدة
جميلة تحلّ مكانك."
احتسيا زجاجة النبيذ كلها، فيما كانا يجلسان في المطعم القائم في الطابق الأعلى من الفندق الذي
ينزل فيه جي، يتحدثان عن العمل والسحر والمرأة. وكانت الغبطة تغمر جي بعد أن نجح في إبرام
عقد ضخم لصالح الشركة الهولندية المتعددة الجنسيات التي يعمل فيها، بينا كان باولو متحمساً
للرزمة التي أحضرها معه.
"لنحتسي زجاجة أخرى"، قال باولو.
"نخب ماذا؟."
"نخب قدومك إلى ريو دي جانيرو. . . . نخب هذا المشهد الجميل المطل من النافذة هناك. . . .
والهدية التي أحضرتها لك."
أطلّ جي من النافذة ورأى شاطئ كوباكابانا المزدان بالأضواء المتلألئة في الأسفل. وقال "إن هذا
المشهد جدير بأن نشرب نخبه"، وأشار إلى النادل.
وعندما بلغا نصف الزجاجة الثانية، وضع باولو الرزمة على الطاولة.
قال وهو ينظر إلى جي: "إن كنت ستسألني ما المهم بالنسبة لي، فإني ساثول لك: يا سيدي، إنه
الشخص الذي علّمني أن أفهم أن الحب هو الشيء الوحيد الذي لا يتوقف؛ الشخص الذي أخذ بيدي
بصبر وأناة وقادني إلى طريق السحر المعقّد .الشخص الذي كانت لديه الشجاعة والكرامة، رغم
سلطته، لأن يقدم نفسه دائماً بأنه شخص تراوده بعض الشكوك، وأن له بعض مواطن الضعف.
الشخص الذي ساعدني في فهم القوى التي يمكنها أن تحول مجرى حياتنا."!
"ما زال لدينا الكثير من النبيذ"، قال جي، " ولا أريد أن أخوض في أحاديث جدية."
"إني لا أتحدث عن أشياء جدية، بل أتحدث عن أشياء تثير البهجة. إني أتحدث عن الحب".
ودفع الرزمة على الطاولة أمام جي وقال: "افتحها."
"ماهذه؟."
"وسيلة لأعبر فيها عن شكري. ولأنقل إلى الآخرين جميعهم الحب الذي علّمتني إياه."!
فتح جي الرزمة التي كانت تضم ما يقرب من مائتي صفحة مطبوعة، دون على الصفحة الأولى
منها "الخيميائي."
كانت عينا باولو تتألقان.
قال: "إنه كتاب جديد. اقلب إلى الصفحة التالية ."!
كان هناك إهداء مدون بخط اليد: "إلى جي... الخيميائي الذي يعرف ويستخدم أسرار العمل
العظيم."!
كان باولو ينتظر هذه اللحظة بفارغ الصبر. فقد كان بإمكانه أن يبقي مسألة أنه يكتب كتاباً جديداً
طي الكتمان، رغم أنه كان يعرف أن جي أحب كتابه السابق كثيراً.
قال باولو: "هذه هي المخطوطة الأصلية"، ثم أردف: "أريدك أن تقرأها قبل أن أرسلها إلى الناشر."!
حاول أن يقرأ تعابير مرشده من عينيه، لكنّهما كانتا عصيتين على الفهم.
قال جي: "عندي اجتماعات طوال يوم الغد، لذلك لن أتمكن من قراءتها إلا في الليل. إذن لنتناول
الغداء معاً بعد يومين."!
كان باولو يتوقّع رد فعل مختلفاً. فقد خيل إليه أن جي سيكون سعيداً بالإهداء.
"اتفقنا"، قال باولو، مخفياً إحباطه، واضاف: "سأعود بعد يومين."
نادى جي النادل ليدفع الحساب. سارا صامتين نحو المصعد. ضغط جي زر الطابق الحادي عشر .
عندما توقّف المصعد في الطابق الذي يقيم فيه، ضغط جي زر الطوارئ ليبقي باب المصعد مفتوحاً،
ثم اقترب من باولو وقال: "ليحميك حمل االله" ، ورسم إشارة على جبهة مريده.
عانق باولو مرشده وتمنى له ليلة هانئة. ثم ضغط جي الزر ثانية، وخرج من المصعد.
"لماذا لم تصور نسخاً عن النسخة الأصلية؟"، سأل، فيما بدأ الباب يغلق.
لكي أمنح االله الفرصة لكي تختفي، إذا كانت تلك مشيئته ."!
"قرار حكيم"، سمع باولو جي يقول عندما أغلق الباب. آمل أن لا يكتشف النقّاد الأدبيون مكانها ."
* *
التقيا بعد يومين، في المطعم ذاته.
بدأ جي بالقول: "هناك بعض أسرار الخيمياء الموصوفة في كتابك. أسرار لم أناقشها معك قط. وقد
عرضتها بشكل صحيح تماماً."
اعترى باولو شعور بالغبطة. فقد كان هذا ما يريد أن يسمعه.
وأضاف موضحاً: "حسناً، إني أقوم بدراسة هذه الأشياء."
"لا، لم تكن تدرسها"، قال جي،" ومع ذلك فإن ما كتبته عنها صحيح."
قال باولو لنفسه: "لا يمكنني أن أخدعه. فقد كنت أريد أن يظن أني منصرف إلى ذلك، لكني لا
أستطيع خداعه."
تطلع إلى الخارج .كانت الشمس مشرقة، والشاطئ مكتظاً بالناس.
"ماذا ترى في تلك السماء الرحبة؟" سأل جي.
"غيوماً."
فقال جي: "لا، إنك ترى روح الأنهار. الأنهار التي ولدت من جديد في البحر. إنها ستصعد إلى
السماء، وستبقى هناك حتى تعود، لأي سبب كان، وتتحول إلى أمطار وتهطل إلى الأرض.
"الأنهار تعود إلى الجبال، لكنها تحمل معها حكمة البحر."
صب جي لنفسه قليلاً من المياه المعدنية. إذ لم يكن يشرب عادة أثناء النهار.
"هكذا اكتشفت تلك الأسرار التي لم نناقشها قط" قال جي." إنك نهر. لقد صببت لتوك في البحر،
وإنك تعرف حكمته. لقد متّ وولدت مجدداً مرات عديدة. كلّ ما عليك أن تفعله هو أن تتذكّر."!
غمرت باولو السعادة. كان ذلك ضرباً من المديح :قال مرشده إنه "اكتشف الأسرار"، لكنه لم يكن
بوسعه أن يسأل بصراحة ما هي تلك الأسرار.
قال جي: "عندي لك مهمة جديدة ". ثم صمت مفكّراً، وأضاف: "لها علاقة بكتابك. لأني أعرف أنها
في غاية الأهمية بالنسبة لك ". لكن باولو لم يكن بحاجة لأن يسمع ذلك.
* *
بعد أسبوع، كان جي وباولو يسيران جنباً إلى جنب في أرجاء المطار. فقد أراد باولو أن يعرف
المزيد عن المهمة التي أوكلها له مرشده في الأسبوع الفائت، بيد أنه حرص على تفادي الخوض
في هذا الموضوع. ثم جلسا إلى طاولة في الكافيتيريا.
"لم نتمكن من تناول العشاء معاً إلا مرتين خلال فترة إقامتي هنا في ريو"، بدأ جي كلامه، ثم
أردف: "وهذه المرة الثالثة". واستشهد بالمثل القائل " :أي شئ يمكن أن يحدث مرة، قد لا يحدث
مرة أخرى على الإطلاق. أما إذا حدث مرتين، فلا بد أنه سيحدث مرة ثالثة."
كان جي يحاول تفادي الموضوع، لكن باولو ثابر على ذلك. إذ تبين له الآن أن مرشده أحب إهداء
الكتاب، لأنه تناهى إلى سمعه الحديث الذي دار بين جي وموظف الاستقبال في الفندق. وفي وقت
لاحق، أشار أحد أصدقاء جي إلى باولو بأنه هو "مؤلف الكتاب."!
فلا بد أنه أخبر عدداً من الناس عنه – وذلك لأنه لم تكن هناك سوى نسخة واحدة عن النسخة
الأصلية. زينة الزخارف، قال لنفسه وشكر االله لأنه منحه مرشداً يتحلى بهذه المشاعر الإنسانية .
"أريد أن أسألك عن المهمة"، قال باولو للمرة الثانية، "فأنا لا أريد أن أسأل 'كيف' أو ' أين' لأني
أعرف أنك لن تخبرني."!
"حسناً، هذا أحد الأمور التي تعلّمتها طوال هذه الفترة"، قال جي ضاحكاً.
وتابع باولو كلامه: "في أحد أحاديثنا، ذكرت لي رجلاً اسمه جين، وقلت إنه بإمكانه أن يفعل ما
تطلبه مني الآن. سأبحث عنه."
"هل أعطيتك عنوانه؟."
"قلت إنه يعيش في الولايات المتحدة، في صحراء كاليفورنيا. وليس من الصعب الذهاب إلى
هناك."!
"لا، ليس من الصعب."
بيما كانا يتحدثان، أدرك باولو أن الصوت الصادر عن مكبرات الصوت لم يتوقف عن الإعلان عن
الرحلات الجوية المغادرة. بدأ يشعر بالتوتر، فقد خشي أن لا يكون هناك وقت كاف لإكمال حديثهما.
"رغم أني لا أريد أن أعرف كيف أو أين، فقد علّمتني أنه يوجد سؤال يجب أن نسأله دائماً عندما
نضطلع ببعض المهام. وإني أطرح عليك هذا السؤال: لماذا؟ لماذا يجب علي أن أفعل هذا؟ ."
"لأن الناس يقتلون دائماً الأشياء التي يحبونها"، أجاب جي.
وفيما راح باولو يتأمل لغز هذا الجواب، سمع للمرة الثانية الإعلان عن مغادرة الرحلة.
"إنها طائرتي"، قال جي، " يجب أن أذهب."
"لكني لم أفهم جوابك عن سؤالي."!
وفيما طلب جي إلى باولو أن يسدد الحساب، راح يخطّ شيئاً على منديل ورقي بسرعة، وضع
المنديل على الطاولة أمام تلميذه وقال: "خلال القرن الماضي، كتب أحدهم عما قلته لك الآن. لكنه
ينطبق على الكثير من الأجيال."!
تناول باولو المنديل. ولجزء من الثانية، خيل إليه أنه ربما يحتوي على صيغة سحرية. لكنه كان
شطراً من قصيدة.
وكلّ امرء يقتل الشيء الذي يحبه،
وليدرك الجميع ذلك،
فالبعض يفعل ذلك بنظرة حقودة،
والبعض بكلمة إطراء،
والجبان يفعلها بقبلة،
أما الشجاع فيفعلها بالسيف.
جاء النادل ليعيد ما تبقى من النقود، لكن باولو لم يشعر بوجوده. فلم يعد بوسعه أن يتوقّف عن
النظر إلى تلك الكلمات الرائعة.
"إذاً، المهمة"، قال جي بعد برهة طويلة من الصمت، "يجب كسر تلك اللعنة."
"بطريقة أو بأخرى"، قال باولو ببطء، "لقد آل بي الحال إلى ان أحطم ما كنت أحبه. لقد رأيت
أحلامي تتحطم وتتساقط تماماً عندما بدا أني أوشكت على تحقيقها. كنت دائماً أظن أن الحياة تسير
هكذا. حياتي وحياة الآخرين."
"يمكن كسر اللعنة"، كرر جي، "إذا أنهيت المهمة."!
راحا يسيران بصمت في المطار الصاخب. كان جي يفكّر بالكتب التي ألفّها مريده، وأخذ يفكّر
بكريس، زوجة باولو. فقد كان يعرف أن باولو يشده التلقين السحري الذي يظهر مرة أو أخرى في
حياة كلّ شخص.
كان يعرف أن باولو على وشك أن يرى أن أحد أعظم أحلامه قد تحقق.
وكان هذا يعنى الخطر، لأن مريد جي مثل كلّ البشر: إذ سيجد أنه لا يستحقّ بالضرورة كلّ ما
حصل عليه.
لكنه لم يخبر باولو بأي من هذه الأشياء.
"نساء بلادك جميلات"، قال جي مبتسماً، عندما وصلا إلى طابور تدقيق جوازات السفر. "أرجو أن
أتمكّن من العودة ."!
لكن باولو تحدث بجدية.
"إذاً فالمهمة من أجل هذا"، قال فيما كان مرشده يسلّم جواز سفره لدمغه بالختم. "لكسر اللعنة."!
فأجاب جي بنفس القدر من الجدية: "إنها من أجل الحب .من أجل النصر. ولمجد االله."!
كان قد مضى عليهما ساعات عدة وهما في السيارة .وللمرة المائة، سأل المرأة الجالسة بجانبه إن
كانا يسيران في الطريق الصحيح.
وللمرة المائة، نظرت المرأة إلى الخريطة. نعم، فهما يسيران في الطريق الصحيح، رغم أن كل ما
كان يحيط بهما هو الخضرة، ونهر يجري بمحاذاة الطريق، وأشجار تحف على امتداد جانبي
الطريق.
قالت: "أظن أننا يجب أن نتوقّف عند محطة بنزين ونسأل."
تابعا طريقهما دون أن ينبسا بكلمة، بل راحا يستمعان إلى بعض الأغاني القديمة المنبعثة من
المذياع. وكانت كريس تعرف أنه ليس من الضروري أن يتوقفا عند محطة بنزين، لأنهما يمضيان
في الطريق الصحيح - رغم أن المشاهد الطبيعية حولهما كانت تختلف اختلافاً تاماً عما كانا
يتوقعانه. لكنها تعرف زوجها حق المعرفة. فقد كان باولو عصبي المزاج وقلقاً، ويخيل إليه أنها لا
تجيد قراءة الخريطة، وأنه يشعر أنه من الأفضل إذا توقّفا وسألا.
"ماذا نحن فاعلان هنا؟."
فأجاب: "لدي مهمة يجب أن أنجزها."
"مهمة غريبة"، قالت.
غريبة جداً، قال. وهي أن يتحدث إلى ملاكه الحارس.
"حسناً"، قالت بعد برهة من الصمت، "إنك هنا لكي تتكلّم مع ملاكك الحارس .في هذه الأثناء، ما
رأيك أن تتحدث معي قليلاً؟."
لكنّه لم ينبس بكلمة، بل واصل تركيزه على الطريق، وظن مرة أخرى أنها أخطأت الطريق. لا
جدوى من الإصرار، قالت في نفسها. كانت تأمل أن يصادفا محطة بنزين في وقت قريب.
كانا قد انطلقا في رحلتهما مباشرة من مطار لوس أنجلوس الدولي. وكانت تخشى أن يكون باولو
متعباً، ويغلبه النعاس وهو يقود السيارة. ولم يكن ثمة أي مؤشر يدل على أنهما أصبحا قريبين من
المكان المتجهين إليه.
كان يجب أن أتزوج مهندساً، قالت لنفسها.
فهي لم تعتد أبداً على حياته - إذ كان ينطلق بغته، يبحث عن دروب مقدسة، عن سيوف، يتحدث
مع الملائكة، يفعل كلّ شيء ممكن ليتقدم أكثر في الطريق المفضي إلى السحر.
كان دائماً يخلفّ كلّ شيء وراءه.
* *
تذكّرت موعد لقائهما الأول. كانا ينامان معاً، ثم نقلت الطاولة التي كانت تمارس عليها أعمالها
الفنية إلى شقّته بعد أسبوع .قال أصدقاؤهما إن باولو مجوسي ويتعاطى السحر، وفي إحدى الليالي
اتصلت كريس بكاهن الكنيسة البروتستانتية التي كانت تؤمها، وطلبت منه أن يتلو صلاة.
إلا أنه خلال السنة الأولى تلك، لم يفه بكلمة واحدة عن السحر. بل كان يعمل في أحد استوديوهات
التسجيل، وبدا أن ذلك كان جلّ اهتمامه.
وفي السنة التالية، ظلاّ يعيشان الحياة ذاتها. لكنه ترك عمله وذهب ليعمل في استوديو آخر.
وخلال سنتهما الثالثة معاً، ترك عمله مرة أخرى (كان يتملكه هوس بترك كلّ شيء وراءه) وقرر
أن يكتب سيناريوهات للتلفزيون. وجدت أن هذا أمر غريب، الطريقة التي يغير فيها عمله كلّ سنة
- لكنه أخذ يكتب، ويكسب مالاً، وبدآ يعيشان حياة رغيدة.
ثم ،وفي نهاية سنتهما الثالثة معاً، قرر - مرة أخرى - أن يترك عمله. لم يقدم أي تفسير لذلك، بل
كان كل ما قاله إنه سئم ما يفعله، وإنه لم يكن يعقل أن يستمر في ترك عمله وتغييره، الواحد تلو
الآخر. كان يريد أن يكتشف ما كان يريد أن يفعله. وضعا بعض المال جانباً، وقررا أن يسافرا قليلاً.
تماماً كما نفعل الآن، قالت كريس لنفسها في السيارة.
* *
أولّ مرة التقت فيها كريس بجي كانت في أمستردام عندما كان يحتسي القهوة في مقهى في فندق
بروير المطل على قناة سينغل. فما أن رأى باولو ذلك الرجل الطويل ذا الشعر الأبيض الذي يرتدي
بدلة رسمية، حتى اكتسى وجهه بالشحوب. ورغم القلق الذي اعتراه، فقد استجمع شجاعته واقترب
من طاولة الرجل الذي يكبره سناً.
في تلك الليلة، عندما أصبح باولو وكريس وحدهما مرة أخرى، احتسى زجاجة نبيذ كاملة وحده .
وبما أنه لم يكن شارباً جيداً، ففد سكر. وعندها كشف لها ما كان يعرفه: أي أنه كرس نفسه لتعلّم
السحر منذ سبع سنوات. ثم ،ولسبب ما - لم يوضحه قط، رغم أنها سألته عن ذلك مرات كثيرة،
أقلع عن ذلك.
"رأيت جي في منامي منذ شهرين، عندما كنا في زيارة داتشو"، قال باولو.
تذكّرت كريس ذلك اليوم. الذي بكى فيه باولو. قال إنه سمع نداء لكنه لم يعرف كيف يرد عليه.
"هل أعود إلى السحر؟ "سألها.
"نعم"، أجابته، لكنّها لم تكن متأكّدة.
لقد تغير كلّ شيء منذ أمستردام. فقد أصبحت هناك طقوس، وتمارين، وشعائر. وأصبح يسافر
لفترات طويلة مع جي، دون أن يحدد موعداً لعودته. كما بدأت تعقد اجتماعات مطولة مع نساء
غريبات، ورجال تحيط بهم هالة من الشهوانية. كانت هناك تحديات واختبارات كثيرة، ليال طويلة لم
يغمض له فيها جفن، وعطل نهايات إسبوع طويلة لم يغادر فيها البيت.
لكن السعادة كانت تغمر باولو، ولم يعد يفكّر بترك عمله.وأسسا معاً دار نشر صغيرة ، وأصبح يفعل
شيئاً طالما كان يحلم به: ألا وهو تأليف الكتب.
* *
وصلا أخيراً إلى محطة بنزين. وفيما كانت شابة أمريكية من السكان الأصليين تملأ خزان البنزين،
راح باولو وكريس يتمشّيان.
نظر باولو إلى الخريطة وتأكّد من أنهما كانا في الطريق الصحيح.
الآن يمكنه أن يرتاح. الآن سيتحدث قليلاً، قالت كريس لنفسها.
"هل قال جي إنك ستلتقي بملاكك هنا؟"، سألته بتردد.
"لا"، أجاب.
عظيم، لقد أجابني، قالت لنفسها، وهي تنظر خارج السيارة إلى النباتات الخضراء الرائعة، التي
جعلتها أشعة الشمس تتلألأ. وإن لم تدقق في الخريطة بين الحين والآخر، فستشك هي نفسها أيضاً
إن كانا يسيران على الطريق الصحيح. وحسب الخريطة، يجب أن يصلا إلى مقصدهما بعد ستة
أميال أخرى أو ما يقارب ذلك، غير أن المشهد الطبيعي بدا أنه يؤكد أنه لا يزال أمامهما مشوار
طويل.
"لم يكن علّي أن آتي إلى هنا"، واصل باولو كلامه، "فأي مكان كان يصلح لذلك. لكن لدي اتصال
هنا."!
بالطبع كان لدى باولو اتصالات على الدوام. وكان يشير بذلك إلى أهل الطريقة؛ إلا أن كريس عندما
وصفهتم في مفكرتها، وصفتهم بأهل "التواطؤ". ومن بينهم السحرة والأطباء المشعوذون– ذلك
النوع من الناس الذين يراهم في الكوابيس.
"هل يتكلّم أحد مع الملائكة؟."
"لست متأكّداً. ففي إحدى المرات أشار جي إشارة عابرة إلى أحد مرشدي الطريقة الذي يعيش هنا،
ويعرف كيف يتصل بالملائكة. غير أن ذلك قد يكون غير صحيح."
لعله كان جدياً في كلامه، لكن كريس كانت تعرف أنه ربما اختار الآن أيضاً مكاناً لا على التعيين.
مكان يمكن أن تحدث فيه "إتصالات"، مكان بعيد عن حياتهما اليومية، حيث يمكنه أن يركّز على
الشيء الخارق على نحو أفضل.
"وكيف ستتكلّم مع ملاكك؟."
فأجاب: "لا أعرف."
يا لها من طريقة غريبة في العيش، قالت كريس في نفسها. وأخذت تمعن النظر في زوجها وهو
في طريقة ليدفع فاتورة الحساب. فكلّ ما كانت تعرفه أنه تملكه شعور بأنه سيتكلم مع الملائكة،
وهكذا كان! فقد رمى كل شيء من يديه، وأسرع واستقل طائرة، وأمضى إثنتي عشرة ساعة في
رحلة جوية من البرازيل إلى لوس أنجلوس، ثم قاد سيارته مدة ستّ ساعات متواصلة إلى محطة
البنزين هذه، وسلّح نفسه بما يكفي من الصبر ليبقى أربعين يوماً لكي يتحدث – بل لكي يحاول أن
يتحدث – إلى ملاكه الحارس.!
ضحك لها، فردت له بابتسامة. ومع ذلك، لم يكن كلّ ذلك شيئاً سيئاً. إذ كانت لديهما إزعاجاتهما
اليومية العرضية - دفع الفواتير، قبض الشيكات، الدفع لقاء مكالمات المجاملة، تقبل بعض الأوقات
العصيبة التي تعترضهما.
لكنّهما لا يزالان يؤمنان بالملائكة.
"سنفعل ذلك"، قالت.
فأجاب مبتسماً: "شكرا لتلك النحن، لكني أنا المجوسي هنا."
* *
قالت لهما المرأة في المحطة إنهما يسيران في الاتجاه الصحيح – وإنه لا يزال أمامهما قرابة عشر
دقائق أخرى. ران عليهما الصمت وهو يقود السيارة. أقفل باولو الراديو. كانت هناك تلة صغيرة،
لكنهما لم يدركا الارتفاع الذي وصلا إليه إلا عندما وصلا إلى القمة. ولم يتوقفا عن الصعود مدة
ستّ ساعات، دون أن يدركا ذلك.
لكنّهما وصلا أخيراً.
ركن السيارة على جانب الطريق وأطفأ المحرك. نظرت كريس إلى الوراء في الاتجاه الذي قدما منه
لترى إن كانا قد ضلاّ طريقهما: نعم، فقد كان بوسعها أن ترى أشجاراً، ونباتات، وأحراجاً خضراء.
وكانت تمتد أمامهما، من الأفق إلى الأفق، صحراء موهافي : الصحراء المترامية الأطراف التي
تمتد إلى العديد من الولايات وإلى المكسيك، الصحراء التي طالما شاهدتها في أفلام رعاة البقر
عندما كانت طفلة، الصحراء التي فيها أماكن تحمل أسماء غريبة مثل غابة قوس قزح ووادي
الموت.
إنها وردية اللون، قالت كريس لنفسها، لكنها لم تنبس بأية كلمة أخرى. أما هو فراح يحدق في
مساحاتها الشاسعة، محاولاً أن يحدد أين تقيم الملائكة.
* *
إذا وقفت في منتصف الحديقة العامة الرئيسية، ستتمكن من رؤية بداية بلدة بوريجو سبرينغز
ونهايتها، التي توجد فيها ثلاثة فنادق للسياح الذين يأتون في الشتاء طلباً للشمس.
تركا أمتعتهما في الغرفة وذهبا إلى مطعم مكسيكي لتناول العشاء. وقف النادل بالقرب منهما برهة،
محاولاً أن يحدد اللغة التي يتكلمانها. وعندما لم يتمكن من تخمينها في نهاية الأمر، سألهما.
وعندما أخبراه أنهما من البرازيل، قال إنه لم يسبق له أن التقى بشخص برازيلي.
"حسناً، ها أنت الآن تلتقي بشخصين إثنين"، قال باولو ضاحكاً.
قال لنفسه: لن يمر يوم آخر حتى تكون البلدة كلها قد سمعت بذلك، إذ لا توجد أخبار كثيرة في
بوريجو سبرينغز.
بعد أن تناولا طعامهما، راحا يتمشيان في البلدة يداً بيد. كان باولو يرغب في أن يتجول في صحراء
موهافي، يتحسسها، يتنشق هواءها. لذلك سارا فوق أرض الصحراء الصخرية مدة نصف ساعة،
ثم توقفا أخيراً ونظرا إلى الوراء ليشاهدا أضواء بوريجو سبرينغز المتلألئة على مسافة بعيدة.
كانت السماء في الصحراء صافية. جلسا على الأرض وأخذ كلّ منهما يعبر للأخر عن أمنياته فيما
الشهب تتساقط من السماء. لم يكن هناك قمر ينير المكان، بل كانت النجوم المتناثرة تزين السماء
على نحو رائع.
هل انتابك شعور قط، في لحظات معينة في حياتك، بأن أحداً يراقب ما تفعلينه؟"، سأل باولو كريس.
"كيف عرفت ذلك؟."
"إني أعرف. فهناك لحظات ندرك فيها وجود الملائكة دون أن نعرف ذلك حقاً."
عادت كريس بذاكرتها إلى مرحلة مراهقتها، عندما كان يراودها ذلك الشعور بقوة.
"في تلك اللحظات"، واصل كلامه، "نبدأ باختلاق شيء أشبه بالفيلم نكون فيه الشخصية الرئيسية،
ونكون على ثقة بأن أحداً يراقب تصرفاتنا."
"أما عندما يتقدم بنا السن ،فإننا نبدأ في الإعتقاد بأن هذه الأشياء سخيفة، وأن هذا الإحساس
مجرد خيال طفل. وفي تلك اللحظات التي نقدم فيها أنفسنا أمام جمهور خفي، ننسى أن الإحساس
بوجود أحد يراقبنا كان قوياً جداً."
توقف برهة.
"عندما أنظر إلى السماء في الليل، غالباً ما يراودني ذلك الشعور، وأطرح على نفسي دائماً السؤال
ذاته، من يوجد هناك يراقبنا؟."
"ومن هو؟."
"الملائكة. رسل االله."
نظرت إلى الأعلى وراحت تحدق في السماء، راغبة في أن تؤمن بما قاله.
قال باولو: "إن الأديان كلها، وجميع من شهد ذلك الشيء الاستثنائي، يتحدث عن الملائكة"، ثم
أردف قائلاً: "فالكون مأهول بالملائكة. إنها هي التي تمنحنا الأمل. مثل الملاك الذي أعلن عن ولادة
المسيح. وهي تجلب الموت أيضاً، شأن ملاك الفناء الذي تنّقل في طول مصر وعرضها مهلكاً كلّ
من لم يضع الإشارة الصحيحة على باب بيته. ملائكة تحمل سيوفاً لاهبة تستطيع أن تمنعنا من
دخول الجنة، أو تجعلنا ندخلها، كما فعل الملاك لمريم.
"فالملائكة ترفع الأختام الممهورة على الكتب المحرمة، وتنفخ في الصور يوم القيامة. وهي تجلب
النور، كما يفعل ميكاييل، أو الظلام، كما يفعل إبليس."!
سألت كريس بتردد: "وهل لها أجنحة؟."
فأجاب: "حسناً، لم أر أي ملاك بعد، لكني أتساءل عن ذلك أيضاً. لقد سألت جي عن هذا."!
هذا جيد، قالت لنفسها. فعلى الأقل لست الوحيدة التي تطرح أسئلة بسيطة عن الملائكة.
"قال جي إنها تتخذ الشكل الذي يتخليه المرء بأنه شكلها .لأنها أفكار االله في شكل حي ،ويجب أن
تتكيف مع حكمتنا ومعرفتنا. وهي تعرف إن هي لم تفعل ذلك، فلن يكون بوسعنا أن نراها."
أغلق باولو عينيه.
إني أتخيل ملاكك، وستشعرين بوجوده الآن، هنا."
يرين عليهما صمت شديد. يتمددان فوق أرض الصحراء. لم يكن ثمة صوت يسمع، وبدأت كريس
تشعر مرة أخرى وكأنها في فيلم يعرض أمام جمهور غير مرئي. وكلما ركّزت أكثر، ازدادت ثقة
بأن كل ما حولها عبارة عن وجود قوي، ودي وكبير. وبدأت تتخيل ملاكها، وهو يرتدي زياً أزرق،
ذهبي الشعر، وله جناحان أبيضان ضخمان، تماماً كما كانت تتخيله عندما كانت طفلة .
وأخذ باولو يتخيل ملاكه أيضاً. فقد انغمس في أحيان كثيرة في العالم غير المرئي الذي يحيط بهما،
لذلك لم تكن هذه التجربة جديدة بالنسبة له. أما الآن، ومنذ أن أوكل إليه جي هذه المهمة، أحس أن
ملاكه موجود أكثر بكثير - كما لو أن الملائكة لا توجد إلا للذين يؤمنون بوجودها. لكنه كان يعرف
أنه سواء آمن بها المرء أم لم يؤمن، فهي موجودة على الدوام - رسل الحياة، رسل الموت، رسل
الجحيم، ورسل الجنة.
ألبس ملاكه عباءة طويلة، مطرزة بالذهب. كما منح ملاكه جناحين.
استدار حارس الفندق، الذي كان يتناول طعام فطوره، نحوهما وهما داخلان.
قال: "لن أخرج إلى الصحراء في الليل مرة أخرى."
إنها حقاً بلدة صغيرة، قالت كريس في نفسها. فالكلّ يعرف ماذا تفعل.
"الخروج إلى الصحراء في الليل محفوف بالخطر"، قال الحارس موضحاً، "ففي الليل تخرج ذئاب
البراري والأفاعي من أوكارها. إنها لا تحتمل قيظ النهار، لذلك تبدأ رحلة صيدها بعد أن تميل
الشمس إلى الغروب."!
"إننا نبحث عن ملاكينا"، قال باولو.
ظن الحارس أن الرجل لا يتحدث الانكليزية بطلاقة. فما قاله لا يعني شيئاً :الملائكة! ربما كان يقصد
شيئاً آخر.
أنهى الإثنان احتساء قهوتهما بسرعة. وكان المسؤول عن الاتصال قد حدد لباولو موعداً للقاء بهما
في الصباح الباكر.
* *
فوجئت كريس عندما رأت جين لأول مرة. فقد كان شاباً صغيراً، لا يتجاوز العشرين ربيعاً من
العمر، يعيش في مقطورة في الصحراء، على مسافة تبعد أميالاً عديدة عن بوريجو سبرينغز.
"هل هو مرشد "التواطؤ"؟ "همست في أذن باولو، عندما قام الشاب ليحضر قليلاً من الشاي المبرد.
بيد أن جين عاد قبل أن يتمكن باولو من أن يجيب عن سؤالها. وجلسوا ثلاثتهم تحت مظلة تمتد
على طول المقطورة.
وراحا يتحدثان عن طقوس فرسان الهيكل، وعن التناسخ، وعن السحر الصوفي، وعن الكنيسة
الكاثوليكية في أمريكا اللاتينية. وبدا أن الشاب يعرف الشيء الكثير، وكان الاستماع إلى حديثهما
ممتعاً - فقد كانا يبدوان مثل مشجعي فريق رياضي يتناقشان، يدافعان عن بعض التكتيكات
وينتقدان بعضها الآخر.
تحدثا عن كلّ شيء إلا عن الملائكة.
كان الجو يزداد حرارة. احتسوا مزيداً من الشاي فيما كان جين، الذي ارتسمت على وجهه ابتسامة
لطيفة، يحدثهما عن أعاجيب الصحراء. وحذّرهما من أنه لا يجب على المبتدئين ارتياد الصحراء
في الليل، وأنه من الحكمة أيضاً تفادي أكثر ساعات النهار قيظاً.
وقال: "إن الأوقات المناسبة في الصحراء هي فترات الصباح وبعد الظهر، أما الفترات الأخرى فهي
خطرة."!
استمعت كريس إلى حديثهما بقدر ما أمكنها. لكنها كانت قد استيقظت مبكراً، وكانت الشمس تزداد
حدة وحرارة. فقررت أن تغمض عينيها وتأخذ غفوة سريعة.
* *
عندما أفاقت، تناهى إليها صوتاهما من مكان آخر. فقد كان الرجلان في مؤخرة المقطورة.
"لماذا أحضرت زوجتك؟"، سمعت جين يسأل باولو بنبرة تتسم بالحذر.
"لأني كنت قادماً إلى الصحراء"، أجاب باولو، بهمس أيضاً.
ضحك جين.
"لكنك ستفتقد أفضل ما في الصحراء. الخلوة."!
يا له من فتى صفيق، قالت كريس.
"حدثني عن فتيات فالكيري اللاتي ذكرتهن لي"، قال باولو .
فأجاب جين" :يمكنهن مساعدتك في العثور على ملاكك، فهن اللاتي أعطينني التعليمات. لكن فتيات
فالكيري غيورات وشديدات البأس، وهن يحاولن اتّباع ذات القواعد التي تتبعها الملائكة - وكما
تعرف، ففي مملكة الملائكة، لا يوجد خير ولا يوجد شر!".
"ليس كما نفهمها"، قال باولو.
لم يكن لدى كريس أي فكرة عما يقصدانه بكلمة "فتيات فالكيري". فقد تذكرت أنها سمعت هذا الاسم
من عنوان إحدى الأوبرات.
"هل كان من الصعب عليك أن ترى ملاكك؟."
"يمكنك أن تستخدم كلمة أفضل وهي الكرب. فقد حدث كل شيء فجأة. ففي تلك الأيام التي جاءت
فيها فتيات فالكيري إلى هنا، قررت أن أطلّع على هذه العملية من باب الفضول فقط، لأني لم أكن
أفهم لغة الصحراء آنئذ، ولم أكن أشعر بالراحة نتيجة الأشياء التي كانت تحدث لي."
"لقد ظهر ملاكي فوق قمة الجبل الثالثة تلك. كنت أتجول هناك واستمع إلى الموسيقى من جهاز
تسجيل الووكمان. في تلك الأيام، كنت قد أتقنت استخدام العقل الثاني."!
وما "العقل الثاني بحق السماء؟"، تساءلت كريس.
"هل أبوك هو الذي علّمك ذلك؟."
"لا. وعندما سألته لماذا لم يحدثني عن الملائكة قط، قال إنه توجد أشياء في غاية الأهمية يجب أن
تتعلّمها وحدك."
خيم صمت لوهلة من الزمن.
"إذا التقيت بفتيات فالكيري، فستسير الأمور بيسر أكثر بالنسبة لك"، قال جين.
"ما هو؟."
ضحك الشاب.
"ستكتشف ذلك. لكن كان من الأفضل لو لم تحضر زوجتك معك."
"هل لملاكك أجنحة؟"، سأل باولو.
قبل أن يتمكن جين من الإجابة، نهضت كريس من على الكرسي الذي كانت تجلس عليه، وسارت
من خلف المقطورة، ووقفت أمامهما.
"لماذا يثير لغطاً كبيراً لقدومك وحدك هنا؟"، سألته باللغة البرتغالية. "هل تريدني أن أغادر؟."
واصل جين ما كان يقوله إلى باولو، ولم يعر أي اهتمام لمقاطعة كريس لهما. راحت تنتظر رد
باولو – لكن يبدو أنها كانت غير مرئية لهما.
"أعطني مفاتيح السيارة"، قالت وقد نفد صبرها.
"ماذا تريد زوجتك؟"، سأل جين أخيراً.
"تريد أن تعرف ماهو العقل الثاني."!
اللعنة! لقد مضى على حياتنا معاً تسع سنوات، وهذا الغريب يعرف كلّ شيء عنا!
استوى جين واقفاً .
قال:"اقعدي واغمضي عينيك وسأريك ما هو العقل الثاني."
"لم آت إلى هذه الصحراء لأتعلم السحر أو لأتحدث عن الملائكة"، قالت كريس. لقد جئت إلى هنا
فقط لكي أكون برفقة زوجي."!
"اقعدي"، أصر جين، وارتسمت على وجهه ابتسامة.
نظرت إلى باولو لجزء من الثانية، لكن لم يكن بوسعها أن تعرف ماذا كان يدور في رأسه.
إني أحترم عالمهما، لكن ليس له علاقة بي، قالت. ورغم أن جميع أصدقائهما أصبحوا يظنون أنها
انغمست تماماً في أسلوب حياة زوجها، فإن الحقيقة هي أنهما لم يتحدثا في هذا الأمر إلا في أحيان
قليلة جداً. فقد كانت ترافقه إلى بعض الأماكن، بل إنه حمل ذات مرة سيفه من أجل المراسم. وكانت
تعرف الطريق إلى سانتياغو، وكانت - بسبب علاقتهما – قد تعلمت القليل من السحر الجنسي. لكن
كان ذلك كلّ شيء. ولم يعرض جي أن يعلمها أي شئ على الإطلاق.
"ماذا يجب أن أفعل؟"، سألت باولو.
"كلّ ما يخطر ببالك"، أجاب.
أحبك، قالت في نفسها. إذا كان عليها أن تتعلّم شيئاً عن عالمه، وما من شك فإن ذلك سيقرب
أحدهما من الآخر. عادت إلى كرسيها، جلست، وأغمضت عينيها .
"بماذا تفكّرين؟"، سألها جين.
"بما كنتما تتناقشانه. بسفر باولو وحده. بالعقل الثاني. إن كان لملاكه أجنحة. وبماذا يهمني ذلك.
أقصد، لا أظن أني تحدثت في حياتي مع الملائكة."!
"لا، لا. أريد أن أعرف إن كنت تفكّرين بشيء آخر .شيئ يتجاوز قدرتك على التحكم بنفسك."
أحست بيديه تلمسان جانبي رأسها.
"استرخي. استرخي!". قال بصوت رقيق، " بماذا تفكرين."
كانت هناك أصوات .أدركت الآن فقط ما كانت تفكر به، رغم أنه مضى يوم كامل تقريباً على
وصولها إلى هنا.
أجابت: "لحن. فأنا أردد هذا اللحن منذ أن سمعته البارحة في المذياع عندما كنا في طريقنا إلى
هنا."!
صحيح، فهي لم تتوقف عن دندنة اللحن. حتى آخره، ثم أعادته مرة أخرى، ومن ثم كررته من
أوله حتى آخره كرة أخرى. فلم تتمكن من نسيانه.
طلب جين منها أن تفتح عينيها.
قال: "هذا هو العقل الثاني. إنه عقلك الثاني هو الذي يدندن الأغنية. ويمكنه أن يفعل ذلك بأي شئ.
إن كنت تحبين أحداً، فيمكنك أن تضعي ذلك الشخص داخل رأسك. والشيء ذاته يحدث مع الشخص
الذي ترغبين في نسيانه. أما العقل الثاني فيصعب التعامل معه. إنه يعمل سواء كنت ترغبين أم لا."
ضحك.
"أغنية! دائماً تثار مشاعرنا حول شيئ. ولا يكون هذا الشيء أغنية دائماً. هل اتفق وأن علق
شخص كنت تحبينه في رأسك؟ من الفظيع حقاً أن يحدث ذلك .تسافرين، تحاولين أن تنسي، لكن
عقلك الثاني يظل يقول: أوه، إنه يحب ذلك حقاً! كم أتمنى لو كان هنا."
دهشت كريس. لم تفكر قط بوجود شيء يدعى العقل الثاني.
لديها عقلان، يعملان في آن معاً.
الانضمام إلى المحادثة